المسيحيون العرب في المغتربات: القوة المنسية
انطون سابيلا، استراليا
إذا ذهبنا إلى تشيلي فسوف نجد أن عدد المسيحيين الفلسطينيين هناك يتجاوز 350 الف نسمة، اي ثلاثة اضعاف عدد المسيحيين الموجودين اليوم في فلسطين. والأغلبية الساحقة من هؤلاء المغتربين ينحدرون من بيت لحم وبيت جالا والقدس وبيت ساحور والطيبة، ويشكلون قوة إقتصادية وسياسية وعسكرية كبيرة. ويقول أحد أهم شعراء تشيلي الراحل اندرس سابيلا ( من القدس اصلا لكن من مواليد تشيلي لأم تشيلية) أن ريف تشيلي يمتلئ بمن هم من اصل فلسطيني.
وفي مقابلة صحفية له عندما زار فلسطين قبل وفاته في التسعينات وحصوله على تكريم الرئيس الرحل ياسر عرفات قال الشاعر اندرس: " عندما كنت صغيرا في العقد الأول من القرن العشرين جاء والدي حاملا معه صورة للقدس وعلقها في صالون المنزل وقال لي أن هذه المدينة المقدسة امانة في اعناقكم أيها الجيل الجديد، وكان والدي كلما نظر إلى صورة القدس القديمة تجده وقد بدأ يذرف الدموع، وقد اخذت الصورة بعد وفاة ابي وعلقتها في بيتي".
ونحن لا نجد في امريكا اللاتينية مسيحيين من اصل فلسطيني فقط، فهناك اللبنانيين والسوريين والاردنيين، بينما يحبذ المسيحيون من مصر الهجرة إلى الولايات المتحدة واستراليا وكندا، ناهيك عن الدول الاوروبية الأخرى التي استوطن فيها المسيحيون العرب بكثرة.
في استراليا اليوم أكثر من نصف مليون مسيحي عربي نجحوا في الدخول في صلب المجتمع الاسترالي ونرى ابنائهم منخرطين في جميع المستويات الحكومية والخاصة. وإذا اردنا إجراء إحصاء عن عدد المسيحيين العرب في الدول الغربية لوجدنا أنهم يقدرون بالملايين.
ولكن هناك ظاهرة مقلقة تتمثل في غياب أو تغييب المسيحيين العرب عن دورهم الذي كانوا يلعبونه في الماضي كجسر للتلاقي بين الشرق العربي والغرب؟ مما يقودنا إلى التساؤل عن اسباب هذا الغياب أو التغييب، وهل هو مقصود أم عفوي؟
أول شيء يفعله أي سفير لدولة عربية أو زائر عندما يأتي إلى دولة اوروبية أو امريكية أو إلى استراليا هو الذهاب إلى الجامع للتعرف على الجالية الإسلامية. وحيث أن الهجرة الإسلامية إلى الغرب حديثة نسبيا فإن بوسع السفير أو الزائر إتمام مهمته على افضل وجه وفي فترة زمنية قصيرة. ولكن عندما يقوم بعض سفراء الدول العربية بزيارة الكنائس العربية للتعرف على القادة الروحيين والزمنيين للمسيحيين العرب فإن الوضع يختلف جدا. وفي الواقع هناك مشكلة تتمثل في أن المسيحيين العرب الوافدين حديثا هم في الغالب وحدهم الذين يترددون على الكنائس العربية، أما أقرانهم ممن هاجر أجدادهم منذ زمن بعيد، فهم الأكثر تجذرا والأكثر نفوذا في المجتمعات الغربية وقد ذابوا في مجتمعاتهم الجديدة، ومن الصعب احيانا التفريق بينهم وبين الغربيين في المظهر والملبس والتصرفات، وعلى الارجح أنك ستجدهم في الكنائس الغربية الرئيسية أو حتى بين العلمانيين من غير المؤمنين ( هناك علمانيون مؤمنون).
ثم هناك مسألة غابت عن أذهان السفارات والحكومات العربية والمتمثلة في الإعتقاد المغلوط أنه ما دام هناك اليوم تواجد إسلامي كثيف في المجتمعات الغربية " فلم نعد بحاجة إلى وساطة المسيحيين العرب". إن طبيعة تكوين المسيحيين العرب وإنخراطهم في المؤسسات الدينية والإجتماعية والسياسية الغربية، وبحكم أقدميتهم في الهجرة، تؤهلهم اليوم أكثر من اي يوم مضى لدحض الافكار المقولبة حول العرب والمسلمين المنتشرة بقوة هائلة في المجتمعات الغربية. وعلى هذا الاساس فالمطلوب اليوم قيام مؤسسات حكومية عربية مختصة بدراسة سبل تفعيل دور المسيحيين العرب.
عندما وقعت مذابح صبرا وشاتيلا في عام 1982 قام مهاجر من أصل فلسطيني من القدس ( إستشهد والداه عام 1948) قدم إلى استراليا عام 1950 بإقامة حفل خيري لجمع التبرعات لضحيا المجزرة، حضره كبار أصحاب الأعمال الاستراليين، وقد نجح في جمع اكثر من مليون دولار في ليلة واحدة. وقال لي الرجل عندما إلتقيته صدفة في القدس عام 1983 أن معظم المتبرعين هم من اعضاء كنيسته، علما أنه يسكن ويعمل كمحامي في أرقى ضاحية في سدني. ولا ابالغ إذا قلت أن جميع الجمعيات الفلسطينية الحديثة في أستراليا لم تستطع جمع عشر هذا المبلغ على مدى الثلاثين عاما الأخيرة.
وهناك محام أخر من أبرز محامي أستراليا من القدس أصلا ويعيش ويعمل في ملبورن وهو السيّد حنا كركر الذي يبذل مع قرينته المال والجهد من اجل دعم القضية الفلسطينية، وهو على ما أعتقد من القلائل الذي تتواصل معهما الهيئات الدبلوماسية العربية.
وبوسعنا أن نجد امثلة كثيرة، ليس أقلها أن أحد أهم الوزراء الفدراليين اليوم في استراليا يتحدر من القدس، وهو الوزير جو هوكي، لكن أين هي الدول العربية التي دعته لزيارتها. ويحضرني هنا لقاء صحافي جرى بيني وبين شخصية إقتصادية استرالية بارزة قبل اكثر من عشرة أعوام، ولدى إنتهاء اللقاء قال لي الإقتصادي بكل بساطة أن والديه يتحدران من اصول عربية وقد جاء أجداده إلى هذه البلاد في العشرينات من القرن الماضي. وكانت دهشتي لهذه المعلومة نابعة من كون معظم العرب في استراليا لا يعرفون شيئا عن خلفية هذا الرجل. غير أن الرجل كان عاتبا على الدبلوماسيين العرب الذين يتجاهلون امثاله وقال " نحن نستطيع هنا أن نلعب دورا حيويا ولكننا لا نستطيع أن نفرض انفسنا على الأخرين".
وإلتقيت ذات مرة رئيس مجلس الشيوخ الاسبق في برلمان سدني الذي كانت الصحف تصفه بالاسترالي " العتيق" القادم من الأرياف فتبين ان والديه قدما في نهاية القرن التاسع عشر من سوريا. ولا يفوتني صاحب أكبر مؤسسة إقراضية في استراليا، جو سيموند، المتحدر من لبنان وعائلته تفخر أنها من اصول عربية. ولن أنسى أصحاب أكبر محلات المجوهرات في سدني وهم من السريان السوريين.
ولا ازال أذكر السيّدة المسنة التي إلتقيتها مع زوجها في إحدى الحفلات قبل عشرين عاما وكنت أعتقد أنها استرالية أنكلو-ساكسونية فقالت لي أنها تتحدر من بيت لحم وأن جدها جاء إلى استراليا عبر مرفأ بيروت في عام 1886، ولدى سردها لحياة افراد عائلتها تبين أن بعضهم من كبار التجار ومالكي المزارع في استراليا. ثم هناك اللبنانيون الذين هاجروا إلى الغرب في القرن التاسع عشر وأنسالهم الآن يتقلدون أعلى المناصب السياسية والإقتصادية والعلمية. واحفاد المهاجرين الأوائل من المسيحيين العرب تجدهم اليوم ممثلين في شتى المواقع المهمة في العالم الغربي ولهم ثقلهم التجاري والعلمي والسياسي.
قد تطول القائمة في كافة دول الإغتراب، غير أن العبرة واحدة، وهي أن التواصل مع المسيحيين العرب مهم للغاية لأنهم وبدون مبالغة يشكلون خط الدفاع الأول عن القضايا العربية في المغتربات. إن غياب المسيحيين العرب عن دورهم الحيوي ليس مقصودا وإنما ناشىء عن سؤ تقدير للأدوار التي يتوجب على المهاجرين العرب عموما لعبها.
هل نسى هؤلاء الذائبون أو المذوبين عروبتهم؟ ليس من الصعب الإجابة على هذا السؤال لأنهم وإن لم يعودوا عربا فهم اوفياء لأصول الاباء والأجداد، وفي الواقع لم ينسوا اصولهم العربية لكن يبدو واضحا أن العروبة هي التي نستهم. فمتى تستعيد العروبة ذاكرتها؟
انطون سابيلا
صحفي عربي مقيم في استراليا